على خُطى الرَّسول ﷺ ٣٢
مثل أفئدة الطَّير!
قال لأصحابه مرةً لافتاً أنظارهم إلى أهمية رقة القلب: يدخل الجنّة أقوام أفئدتهم مثل أفئدة الطير!
وشُرَّاح الحديث على قولين في معناه:
الأول: أنهم يحسنون التوكُّل على الله، ويسلِّمون له أمر الرزق والكسب، ليس لهم من الأمر إلا السَّعي والأخذ بالسبب، كالطيور تماماً تغادر أعشاشها في الصباح جوعى وتعود إليها مساءً ممتلئة الحواصل، تعلمُ أنها لن تأخذ رزق أحدٍ، ولن يأخذ أحد رزقها!
والثاني: كناية عن رقة القلب ولينه، وشفقته على الناس، والإحساس بهم، والحزن لحزنهم، والفرح لفرحهم!
ولا يمنع أن يجتمع المعنيان، فيكون قلب الطير كناية عن حسن التوكل المصحوب بالرقَّة والعذوبة!
كان طلحة بن عبد الرحمن بن عوف من أجود الناس وأكرمهم، وكان يعطي دون عدِّ ولا حساب، فقالتْ له زوجته يوماً: ما رأيتُ أشدَّ لؤماً من أصحابك وأخوانك!
فقال لها: ولِمَ ذلك؟
فقالتْ: أراهم إذا اغتنيتَ لزموكَ، وإذا افتقرتَ تركوكَ!
فقال: هذا واللهِ من كرمِ أخلاقهم، يأتوننا في حال قدرتنا على إكرامهم، ويتركوننا في حال عجزنا عن القيام بحقِّهم!
وعلَّقَ الإمام الماورديُّ على هذه القصة فقال: أُنظُرْ كيف تأوَّلَ بكرمه هذا التأويل، فجعلَ قبيح فعلهم حَسناً، وظاهر غدرهم وفاءً!
من أعطاه اللهُ قلباً رقيقاً فقد أجزلَ له العطاء!
فهنيئاً لمن انتقى كلامه خشية أن يجرح أحداً، وإن جرحَ أحداً بكلمة غير مقصودة، اهتزَّ النقاء في داخله واضطربَ، فلا يهدأ حتى يصلح ما أفسد، ويرمم ما كسر!
هنيئاً لمن كان قريباً من الناس يألفُ ويُؤلف، كالمطر إذا حضر يحضرُ معه الخير، وكالعطر إذا ما غادر بقي شيء من أثره!
هنيئاً لمن تحسس أوجاع الناس، وتفقَّد حاجاتهم، فأعطى اليد قبل أن تمتدَّ بالسؤال، وأطعم البطن قبل أن يطلب اللقمة!
هنيئاً لمن سار بين الناس جابراً للخواطر، فسامح في حقِّه، وتغاضى عن الإساءة، وبادر للصلح، وما دمعتْ عينً فاستطاع أن يخفف دمعها إلا فعل، ولا نزل هَمّ بصديق أو قريب إلا انبرى يزيل هذا الهمَّ، إن للهِ طُرقاً تقطعُ بالقلوب لا بالأقدام!
أدهم شرقاوي / صحيفة الوطن القطرية