في قصصهم عِبرة ١٨
القصرُ عامرٌ وأنا جائع!
يروي “محمد بن أحمد المقري” في كتابه “المختار من نوادر الأخبار”، أنَّ المأمون العباسي أطلَّ يوماً من شُرفةِ قصره، فرأى رجلاً في يده فحمة، وهو يكتبُ بها على جُدران القصر!
فقالَ لأحدِ غلمانه: اِنزِلْ إلى ذلك الرجل، فأمسِكْ بيده، واقرأْ ما كتبَ، واِئتني به!
فنزلَ الغلامُ فأدركه، وقبضَ على يده، وقرأَ المكتوب، فإذا هو:
يا قصرُ جُمِّعَ فيكَ الشؤم واللؤم
حتى يُعشِشَ في أرجائكَ البُومُ
يوم يُعشش فيك البوم من فرحي
أكونُ أول من ينعاكَ مرغومُ
فقالَ له الغُلام: أَجِبْ أمير المؤمنين!
فقالَ الرجل: سألتك بالله لا تذهب بي إليه.
فقالَ له: إنه يرانا، اُنظُرْ إليه هناك!
فلما وقفَ بين يدي المأمون، قالَ له: ويلكَ!ما حَمَلَكَ على هذا؟
فقالَ له: يا أمير المؤمنين، إنه لا يخفى عليكَ ما حواه هذا القصر من مال، وقد مررتُ به وأنا في غايةِ سُوءِ الحالِ من العطشِ والجوع، ولي يومان ما أكلتُ ولا شربتُ! فقلتُ في نفسي لو كانَ هذا القصرُ خراباً، لأخذتُ منه شيئاً وانتفعتُ به!
يا أمير المؤمنين أعزَّك الله، أما سمعتَ قول الشاعر:
إن لم يكُن للمرء في دولة امرئٍ
نصيبٌ ولا حظٌ تمنى زوالها
وما ذاك عن بُغضٍ ولا كراهةٍ
ولكن يرى نفعه بانتقالها
فقالَ المأمون: يا غُلام، أعطِهِ ألف دينار، وأطعمه، واسقِهِ.
وقالَ للرجل: هذه لكَ كل سنة ما دامَ قصرنا عامراً بنا!
فُطِرَ الناسُ على النظرِ إلى حُكَّامِهِم، فإن رأوهم في غنىً وهم في غنى شكروا، وإن رأوهم في فقرٍ وهم في فقرٍ صبروا، أما إذا رأوا العكس سخطوا، وما يلبثون أن يثوروا! فإنَّ الظلمَ مُؤذِّنٌ بخرابِ العمرانِ كما يقولُ ابن خلدون!
في عامِ الرمادةِ جاعَ الناسُ ولكن أحداً لم يتسخَّط على عُمر بن الخطاب لأنهم رأوه جاعَ كما جاعوا، وقد قرقعتْ بطنه وهو على المِنبر، فقالَ لها مُخاطِباً: قرقعي أو لا تُقرقعي فلن تشبعي حتى يشبع فُقراء المُسلمين!
الناسُ مفطورون على حُبِّ أوطانهم وحُكَّامِهِم، ولكن لهم حاجات وكرامات، فمتى لم يحصلوا على حاجاتهم، ولم تُراعَ كراماتهم، انقلبتْ أحوالهم، وفسدتْ عليهم فطرتهم، ما ينفعُ الجيشُ القويُّ المواطن الذي لا يجدُ رغيفاً، والمشرد الذي لا يجد مبيتاً، والمريض الذي لا يجد سريراً في مستشفى، الناس قبل أن يكونوا مُواطنين هم ناس، فالله الله في الناس!
أدهم شرقاوي / صحيفة الوطن القطرية