في قصصهم عِبرة ٢٥
هذا باب قد أغلقناه!
روى أبو الحسن الأندلسي في كتابه الماتع “تاريخ قُضاة الأندلس”، أن “بدرون الصقلي” دخل على الأمير باكياً، وكان أحب خدم الأمير إليه!
فقال له الأمير: ما يبكيك؟
فقال: يا مولاي، عرضَ لي الساعة مع القاضي ما لم يعرض لي مثله قط، ولوددتُ أن الأرضَ انضمَّتْ عليَّ ولم أقف بين يديه!
فقال له الأمير: وما ذاك؟
فقال: ادَّعتْ علي امرأة عند القاضي، فأرسل معها إليِّ رسالة عليها ختمه، ويأمرني بالحضور بين يديه، فقلتُ: إني في شغل مولاي الأمير، وسأكتبُ إلى القاضي حين أنتهي. ثم لم ألبث إلا يسيراً حتى جاءت شرطة القاضي، وقبضتْ عليَّ، وحملتني إليه!
فلما دخلتُ عليه نهرني، وقال: تمتنعُ عن القدوم إليَّ، ولا تعبأ بكتابي إليكَ؟
فقلتُ: شغلني شغل الأمير
فقال لي: وهذا القضاء شغل الأمير، أعِدْ إلى المرأة حقها، وإلا أمرتُ بجلدكَ أمام الناس!
فلما لم أجد بداً، نزلتُ على أمره، أفترضى أن يكون هذا لي، ومكاني بين خدمك على الذي تعرفه؟!
فقال له الأمير: يا بدرون، هوِّن عليكَ، إن مكانك عندي تعرفه، فسلني به ما شئتَ من حوائجك أقضيها، إلا أمر القاضي! فهذا باب قد أغلقناه، فلا نجيب إليه أحداً من أبنائنا، ولا إخواننا، ولا أبناء عمومتنا، فضلاً عن خدمنا، والقاضي أدرى بما فعل، وأعلم بما حكم!
بهذا العدل سُدنا العالم قروناً، وحملنا مشعل العلم والحضارة دهوراً، بالقاضي الذي يعرف منزلة “بدرون” عند الأمير، ثم لا يحفل بها لأنه لا أحد أكبر من الحق، ولأن الناس أمام القضاء سواء!
وبالأمير الذي لا يرى أن في إحضار خادمه إلى القاضي نيلاً منه وانتقاصاً، وإنما هو من إقامة العدل الذي أُمر الأمير به قبل أن يُؤمر به القاضي!
إن الله تعالى ينصرُ الدولة الكافرة العادلة على الدولة الظالمة المسلمة، ويستجيب دعاء الكافر المظلوم على المسلم الظالم، لا لأنه سبحانه يحبُّ الكافر ويبغض المسلم، حاشاه جلَّ في علاه، ولكن لأنه يُحبُّ العدل ويكره الظلم! والحق يُقال أننا اليوم لم نُؤتَ من قِبل أعدائنا إلا لأننا أُوتينا من قِبل أنفسنا أولاً!
ثم لا تبحثوا عن العدل عند الحكام قبل أن تبحثوا عنه في أنفسكم، في شركاتكم، وتعاملكم مع موظفيكم، في بيوتكم وتعاملكم مع أهليكم وخدمكم، في الطرقات وتعاملكم مع البائع المسكين، وكناس الطريق، وعامل محطة الوقود، وأجير صاحب البقالة!
العدل كالحُب، بذرٌ أولاً ثم حصاد، عندما نبذر العدل نحن أولاً، عندما نقيمه في أنفسنا وبيوتنا ومجتمعنا، سنحصل عليه كأمة، أما قبل هذا فسنبقى نندبُ غائباً لن يأتي!
+
أدهم شرقاوي / صحيفة الوطن القطرية